لا زالت مصر ترزح تحت حكم "المرحلة الانتقالية" التي أفرغت عملية "نقل السلطة" من أي مضمون ديمقراطي حقيقي. فها هي المشاهد النهائية لمسرحية "الانتقالية" تتوالى على شاشات التلفزيون لتؤكد أننا إنما كنا ندور حول أنفسنا طوال هذه الفترة. يتجلى ذلك بشكل قوي في المشهد الخاص بانتخاب الرئيس القادم، بعد أن تبوأ بطولته كوكبة من أبطال النظام القديم على رأسهم نائب حسني مبارك، ورئيس وزراء حسني مبارك، وأحد المتهمين الرئيسيين في قضية "موقعة الجمل،" وغيرهم من رموز الثورة المضادة. ولا يقتصر هذا الفساد الفاضح على مشهد الرئاسة فقط، بل يفوقه مشهد الدستور فساداً، وعلى كل المستويات، من سياقه العام، مروراً بالترتيبات التي أقرت للاستفتاء على دستورهم الساقط مسبقا، وحتى حكم القضاء الإداري ببطلان تشكيل الجمعية التأسيسية. لكن على الرغم من أن البجاحة التي صاحبت تشكيل جمعية تأسيس الدستور أدت إلى رفع الوعي العام بفساد مقاصد القائمين عليها، يظل المسكوت عنه في خطيئة وضع الدستور يخفي أهم ما فيها، وذلك ربما يعود إلى أن ابطال هذا المشهد يبدون أكثر احتراما من أبطال مشهد الرئاسة، حتى وإن فقدوا بعض احترام الناس في الشهور الماضية.
وعليه، علينا أن نبدأ الحديث عن مشهد الدستور بالتأكيد على أنه لا يقل فسادا عن مشهد الرئاسة، وأن نتفق مقدماً على أنهما مشاهدان متكاملان من مشاهد الفصل الختامي لمسرحية "المرحلة الانتقالية" التي تسعى لفرض رئيس ودستور فاسدين علينا. لذلك لا يكفي أن نتوقف عند رفض مشهد الدستور هذا من حيث المبدأ، أو نكتفي بل علينا أن نتوقف كثيرا عند ما تكشفه تفاصيله عن طبيعة "المرحلة الانتقالية" وصراعات القوى التي تقف ورائها. فما أسهل من أن نحمل، مثلاً، "العسكر" مسؤولية إفساد الدستور من حيث المبدأ، إلا أن الأحداث الأخيرة تؤكد أن المسرحية أكثر تعقيداً من ذلك. فلو كانت الأمور ببساطة تحكم "المجلس العسكري" في المشهد كله، لفشلت مخططاته بعد التنحي بشهر. لأن "العسكري،" على الرغم من كونه المخرج الرئيسي لـ"الانتقالية،" إلا أن تطورات مشهد الدستور أثبتت أنه يفتقر القدرة على إخراجها بهذا الشكل منفرداً. لذلك لجأ لإخراجها بالاشتراك مع جماعة الإخوان، أحد أهم منافسيه، إن لم تكن عدوته على المدى البعيد، بغض النظر عن الأسباب التي اجبرت الجماعة على الدخول في هذه الشراكة، والتي يشتد الخلاف على تقديرها الآن.
بإختصار، لا يصح اختزال القوى التي تقف وراء مشهد الدستور، ومن ورائه مسرحية "الانتقالية" الأكبر، في شخص المجلس العسكري وحده، أو جماعة الإخوان وحدها، كما يفعل الكثيرون الآن. أنظروا مثلا موقف حزب الوفد وتذبذبه المستمر ما بين "العسكري" والإخوان، وما بين المشاركة في جمعية الدستور ومقاطعتها، وحصول هذا الحزب تحديدا على أصوات انتخابية يصعب تفسيرها لعدم وجوده على الساحة الشعبية. لاحظوا أيضا موقف "الشخصيات العامة" الذين انتفضت بقيادة "ممدوح حمزة" لدعم المجلس العسكري في مواجهته المفترضة مع الإخوان...هذه "التشوهات" مجتمعة، لا مؤسسة واحدة، هي التي تشكل الكارثة التي نعيشها الآن.
الأهم، تجمعت هذه "التشوهات" لتحبس النقاش الدائر حول الدستور في إطار يمنع الصراع من التطرق إلى وضعية "العدالة الاجتماعية،" أو الاستقلال عن "التبعية للاستعمار،" أو ضمان "الحريات النقابية،" وغيره من القضايا التي ضحى بها فرقاء الصراع التلفزيوني بعد أن اختزلوا كل شيء في صراع بين "الدولة المدنية" و"الدينية،" على أهميته. وهذا إنما يشير إلى أن كل الفصائل التي تشارك في معزوفة "الانتقالية" الآن متورطين بشكل ما، عن وعي أو غير وعي، في إخراجها بما يجعل من هدف واحد، على أهميته، مدخلاً للالتفاف على باقي أهداف ومبادئ الثورة—في حين أن الأصل في هذه الحالة هو عدم تعارض الأهداف التي توافقنا على تحقيقها منذ ثورة يناير، حتى وإن اختلفنا حول درجة ومعنى "مدنية الدولة." وهكذا تسيد الاختزال الموقف ليمنع النقاش من التطرق إلى وضع دستور يحقق أهداف الثورة.
كان هذا الاختزال المخل وهو ما شجعني على أن أكرس عدد من المقالات لتسليط الأضواء على المسكوت عنه في مشهد الدستور، من وجهة نظري طبعاً. ولم أجد أفضل من تحليل إنعكاسات الدستور الحالي في مرآة دستور 1923 "العظيم،" كما يصفونه، لتدشين هذا المشروع، لما لشيوع الحديث عن هذا الدستور "العظيم" الآن من ارتباطات وثيقة وهامة بعملية وضع الدستور الحالي. وقد سوف أتبع ذلك بمقالة أخرى في خلال أيام أخصصها لتفكيك الخطاب الخاص بترتيبات وضع الدستور الجارية، على أن أنهي مشروعي لنقد عملية وضع الدستور الحالي بتحليل خاص بتفكيك مصطلح "الإرادة الشعبية،" تلك المقولة التي بررت خطايا سياسية كبرى وفساد انتقالي غير مسبوق.
دستور 1923 "السباق"
يتجلى الحجم الحقيقي لمآساة الدستور الجارية في النقاش الدائر حالياً حول دستور 1923 وطريقة تصوير الإعلام له. بل يعتبر هذا النقاش تحديداً من أهم ما يجري تداوله بخصوص الدستور لأنه يفضح مدى تقديسنا للأطر القانونية الرثة التي باتت تنظم لنا صراعنا الدستوري وتحدد لنا معاييره ومعانية بشكل لا يتحمل تأويلات مغايرة—وهي أطر تفرزها بيئتنا المهووسة بأشكال النضال القانوني بتلقائية تامة.
لنبدأ إذن بالإشارة إلى اتفاق الأوساط القانونية على تصوير دستور 1923 هذا على أنه أول دستور ديمقراطي لمصر. ولد هذا الدستور "العظيم،" طبقا لتوصيف القانونيون، سابق لعصره، ليحل محل الإطار الدستوري الذي كان يحكم مصر قبله تحت أسم "القانون النظامي نمرة 29 لسنة 1913." وقامت بوضعه لجنة عينها الملك فؤاد برئاسة عبد الخالق ثروت مكونة من ثلاثين شخصاً من ممثلين مفترضين للأحزاب والحركات السياسية، إلا أن حزب الوفد بقيادة سعد زغلول قاطع هذه اللجنة وشهر بها في الإعلام، واصفا إياها بـ"لجنة الأشقياء" (وهو وصف قاسي في هذا الوقت). لكن على الرغم من وضع الدستور بهذا الشكل الإقصائي، إلا أنه، والكلام لازال للقانونيين، نجح في حكم مصر لمدة طويلة: بدء من عام 1923 حتى أتت ثورة يوليو لتبطل العمل به. ويفترض أن فترة العمل بهذا الدستورهي التي شهدت ترسيخ الحريات والقييم الليبرلاية الأصيلة بما مكن من تدشين العصر الذهبي للديموقراطية في مصر. ويضيف هؤلاء القانونيون أن هذا الدستور كان من الثبات لدرجة أنه ظل يمثل إطار الحكم العام طوال ثلاثة عقود، بإستثناء فترة لا تتجاوز الخمس سنوات، هي فترة إنقلاب دستور 1930 عليه، لكنه نجح في النهاية في تجييش الشعب كله للدفاع عنه، وهكذا عاد في عام 1935 بعد انتصار الشعب على ردة دستور 1930. أو هكذا يصوره التاريخ الذي كتبته لنا النخبة السياسية: دستور سابق لعصره على كل المستويات. (ويؤكد على هذا التصوير—وهو تصوير قديم، يسبق أزمة الدستور—كل فرقاء الصراع السياسي الحالي، من الدكتور أحمد أبو بركة، المستشار القانوني لجماعة الاخوان المسلمين، إلى الدكتور علاء الاسواني، أحد أهم رموز الدولة المدنية، إلى الإعلامي عمرو أديب، أحد أهم إعلاميي النظام الحاكم وإعلامي آل مبارك المضل، الخ...)
لشيوع هذا الطرح الرومانسي الآن، ونحن نكتب دستورنا الجديد، دلالات هامة ليس فقط لأنه يفرض علينا التفكير في أسباب شيوعه على الرغم من سذاجته، ولكن لأن تعارضه مع الأحداث التي شكلت تاريخ مصر في هذه الفترة يفضح جوهر المسكوت عنه في معضلة الدستور الجارية. وأغرب ما يستوقفني هنا هو أننا نستطيع قياس تعارض هذا الطرح مع الأحداث التي شكلت الفترة التاريخية المعنية بالرجوع لكتابات نفس الاساتذة الذين يعظمون دستور 1923 بالطريقة المذكورة أعلاة. وهنا سنلاحظ أن كل كتابتهم تقر أن قوى الاستعمار الانجليزي ظلت تتدخل في الشؤون الداخلية لمصر بشكل مباشر وسافر بما حدد شكل الحكم ونتائجه، لكننا لا نجد في دستورهم العظيم هذا ما يقنن درجة التدخل الأجنبي في شؤون الحكم. بمعنى آخر، لم يحكم هذا الدستور مصر بشكل عميق أصلا، لأن صلاحيات أحد أهم أركان الحكم في مصر ظلت فوقه لا تبالي به، حتى وإن نجح في نظم الخطاب السياسي السائد في هذا الوقت.
لذلك نجد من يعظمون هذا الدستور مجبرون على إسناد مصدره إلى قرار الملك فؤاد بتشكيل لجنته، في حين أن بداياته القانونية والسياسية والإجرائية يعودون إلى إصدار تصريح أحادي الجانب أصدرته سلطات الاحتلال الانجليزي في عام 1922 (بعد أن فشلوا في الوصول لاتفاق مع الجانب المصري) أعلن الاعتراف بمصر كدولة مستقلة وإنهاء الحماية عليها في حدود أربع شروط ضمنت تبعية مصر للأنجليز بشكل تام. ومن هنا حق لمصر أن تضع لنفسها دستوراً في حدود الاستقلال الصوري التي تحكمه شروط التبعية هذه، بعد فشل الجانب المصري في منع صدور التصريح الأحادي الجانب هذا أو حتى تخفيف حدة شروط التبعية التي اقرها.
تلخص ملابسات اعتزال سعد زغلول للعمل السياسي جوهر هذا الدستور الرث بشكل عبقري. فمن المعروف أن سعد زعلول—البطل المفترض لثورة 1919، على اساس تزعمه للوفد الذي قاد التحرك ضد الأنجليز (وللمفارقة، تشكل هذا "الوفد" على خلفية أول حملة توكيلات في تاريخ مصر)—هو أيضاً قائد الحملة التي شنت ضد "لجنة الأشقياء" التي وضعت هذا الدستور "السباق." لكنه قبل في النهاية بالدستور الذي وضعته لجنة "الأشقياء" هذه، وأسس حزب الوفد في عام 1923 ليخوض الانتخابات النيابية التي جرت على أساسه (أول انتخابات تحت هذا الدستور). وبالفعل نجح حزب الوفد في الفوز في هذه الانتخابات بأغلبية كبيرة، وهو ما عنى تكليف سعد زغلول بتشكيل أول حكومة منتخبة شعبياً تحت هذا الدستور "السباق" (لأنه أعطى البرلمان صلاحية تشكيل الوزارة). لكن للاسف لم يستطع سعد زغلول الاستمرار في رئاسة الوزراء إلا شهور قليلة لأن سلطات الاحتلال الأنجليزي أجبرته على الاستقالة على خلفية حادثة اغتيال السير "لي ستاك" قائد الجيش المصري (وحاكم السودان). ولم يقتصر نجاح سلطات الاحتلال في إقالة سعد زغلول (في شكل استقالة) فحسب، بل نجحوا في نفس الفترة في إنهاء فصل مصر عن السودان على الرغم من معارضة الحكومة المصرية (بغض النظر عن تقييمنا لأخلاقية هذا الفصل، ما أريد الإشارة له هنا هو نجاحهم في ذلك ضد رغية القصر، والحكومة، والبرلمان، والحركات السياسية). ومن بعدها اعتزل سعد زغلول الحياة السياسية تماماً حتى وفاته في عام 1927. ومن البديهي طبعاً أن كل من يتحدث عن عظمة هذا الدستور وأبطاله يجد نفسه مجبراً على تجاهل هذه الخلفية تماما.
المهم، يكتشف كل من يقرأ تقارير الاحتلال الانجليزي عن مصر أن الحكم كان يسير بالاساس بصفقات وصراعات مع الاستعمار تماثل حادثة اعتزال سعد زغلول السياسة بعد شهور من تشكيله الوزارة، ويكتشف أيضاً أن كل هذه الصفقات خرقت دستور 1923 "السباق" (أنظر مثلاً فجاجة حادثة 4 فبراير). نحن إذن أمام حالة غريبة جداً من التوافق على تعظيم دستور لم يحكم أهم سلطات الحكم منذ البداية، ولم ينجح أبدا في صيانة استقلال الوطن، وإن افترضه في صياغاته. بل كان من الهشاشه بحيث لم يستطع الإبقاء على "بطل الأمه" (وأول رئيس وزراء ينتخب على أساسه) في منصبه إلا أشهر قليلة لمجرد رفض الأنجليز له. ومن هذه الزاوية هو دستور رث لم تتجاوز درجة مصداقية لعبة "يالا بينا نلعب عروسة وعريس،" حتى مع الاقرار بأنه كان يحكم أوجه هامة من أشكال الصراع السياسي في البلد.
لكن لاتزال معظم الأوساط القانونية والسياسية تتفق على عظمة هذا الدستور، وتستشهد به الآن أكثر من أي وقت مضى، وإن كان كل فريق يوظف هذا التصوير على طريقته. على سبيل المثال، يحاول فريق "الأغلبية البرلمانية،" كما يحلو له تسمية نفسه، التركيز على أن دستور الاستعمار هذا خرج عظيما وسابقا لعصره على الرغم من انفراد فصائل معينة بكتابته، ومقاطعة قطاع كبير للجنته، وتشويه الحركة السياسية المعارضة للجنة التي تأسست لوضعه لدرجة نعتها بلجنة "الأشقياء": أي، على الرغم من أنه وضع بنفس الطريقة التي يحاولون وضع الدستور بها الآن. بل وصلت عظمة هذا الدستور، وهذا الكلام لازال لأنصار "الأغلبية البرلمانية،" إلى درجة أنتفاض من عارضوه في البداية للدفاع عنه بمجرد أن حاول النظام استبداله بدستور آخر. وفي هذا الطرح رسائل تمس الحاضر المصري بشكل واضح، لما فيه من دفاع ضمني عن عظمة الدستور الحالي وتشكيل لجنته على أرضية اقصائية، وتشكيك في الحركة التي تعارضه. كما ولا يخلو الأمر أيضا من دفاع عن "الدولة البرلمانية" لكون هذا الدستور أول من أسس لنظام الحكم البرلماني في مصر.
في حين يصر المعسكر الليبرالي المضاد على أن هذا الدستور كان عظيما لأنه أعلى الحريات الشخصية والسياسية فقط لا غير. لذلك يؤكد أنصار هذا الطرح دائما على أن هذا الدستور خرج معيبا لأن اللجنة التي شكلها عبد الخالق ثروت، رئيس الوزراء في حينها، وضعت صلاحيات الملك فوق الجميع، من منطلق أنها كانت لجنة مغرضة تعلي مصلة من عينها (دون أن تقلق هذا المعسكر صلاحيات الاستعمار التي ظلت دائماً فوق الدستور). ويصر هذا المعسكر أيضاً على أن هذا العوار كان كفيل بإدخال مصر في أزمات مسمترة انتهت بإطاحة ثورة يوليو بمفهوم الملكية الدستورية والحريات السياسية في عام 1952، على الرغم من عبقرية هذا الدستور. وفي هذا الطرح أيضا رسائل تمس الحاضر المصري بشكل واضح: ففيه دفاع ضمني عن "الحريات" التي يختزل الليبراليون مفهوم التقدم في القدرة على ضمانها مع التأكيد على عوار اللجنة التي تضع الدستور الآن عن طريق مقارنتها بلجنة الأجداد التي أعلت مصالح من عينها فوق كل شيء. ولا يخلو الأمر من التحذير ضمنيا من أن يلاقي الدستور الحالي مصير دستور الأجداد.
هكذا يشيد الجانبان بلدستور 1923 من أجل أهداف متعارضة. لكن يبقى السؤال، هل كان هذا الدستورعظيما بالفعل؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه من هذا الدستور ومما يثار حوله الآن؟ فمن الواضح أن ما يثار حوله يتعلق بشكل مباشر بالتطورات الخاصة بوضع الدستور الحالي. وعليه، علينا أن نستعيد بعض الحقائق التاريخية التائهة في وسط هذه المعركة، أبسطها هو أن علينا الإقرار بوقوع الثورات عندما تقع.
ليس للثورات أي حضور
لا تقتصر عيوب هذه التصويرات الرومانسية على تجاهلها لحقيقة أن هذا الدستور لم يشكل أساس الحكم أصلا، ولا في اعتمادها على تجاهل دستورهم هذا لحقيقة استعمار مصر، كما لو كانت مصر مستقلة في حين أنها كانت ترضخ لاستعمار مباشر، وإنما تمتد قبل أي شيء آخر إلى تجاهلها بالضرورة لفكرة "الثورة." فلابد وأن هؤلاء الأساتذة المؤرخين يعرفون أن ثورة 1919 كانت هي التطور الأساسي الذي دفع الاحتلال لإصدار تصريحه أحادي الجانب بعد فشل الوفد في مهمته الرئيسية مع القوى الخارجية، وما ترتب عليه من إصدار النظام للدستور الجديد. وعليه إني لأستغرب عدم تطرق أي مصدر إلى حقيقة أن هذا الدستور كان بالأساس دستور "ما بعد ثورة،" على الرغم من أن الحاضر يفرض اسقاطات قوية وتلقائية في هذا الاتجاه. وعليه فإجماع طرفي الصراع التام على تغييب خلفية الثورة، على الرغم من الحرب الباردة التي تدور بينهما، لابد وأن يكون أكثر من مجرد سقطة، بغض النظر عما إذا كان ذلك يتم بوعي أو غير وعي.
يفرض علينا عدم قدرة طرفي الصراع على ملاحظة وجود "ثورة" في خلفية الموضوع أن نبحث فيما اتفقوا على تجاهله بالضبط، بوعي أو بغير. وهنا أيضا يمكن لنا أن نستقي معاييرنا من نفس كتابات من يعلون شأن دستور 1923 على النحو السابق. تقول هذه الكتابات إن ثورة 1919 قامت بالأساس ضد الاستعمار بمشاركة قطاعات شعبية كبيرة، من المسلمين والمسيحيين، لمناهضة الاستعمار الانجليزي، والطبقة التي كانت تحتكر خيرات البلد في هذا الوقت. لكن النتيجة النهائية لهذا التحرك الشعبي تجاهلت هذه المطالب. فبعد فشل الوفد الذي شكل لتمثيل مصر أمام ما يمكن تسميته بالمجتمع الدولي، قامت النخبة بقيادة القصر بوضع دستور فشل ليس فقط في التأسيس لاستقلال الوطن عن الاستعمار الانجليزي بشكل حقيقي، بل في إدارة صراع حضاري بين "المثلث" الذي كان يحكم مصر في هذا الوقت؛ ويتم تصوير هذا المثلث في كتابات النخبة على أنه يتكون من الانجليز، والقصر، والوفد (الذي خطف ثورة 1919)، بحيث ظل هذا الثلاثي يحكم مصر بالصفقات والترتيبات السرية التي غيبت الشعب عن تقرير مصيره حتى أطاح إنقلاب عسكري بالمثلث ودستوره، سرعان ما تطور إلي ثورة شعبية. (مع التأكيد على أن تصور المثلث يختزل تعقيدات الصراع السياسي في مصر في هذا الوقت بشدة...استحضره هنا فقط لتواتره في الكتابات التي تعظم الدستور).
ثم ما أن أتت الحكومة التي تشكلت بعد الدستور للحكم إلا وشرعت في حل الأشكال النقابية التي كانت تدافع عن العدالة الاجتماعية وحقوق العمال (وإن كانت لا ترفض الرضوخ لمطالب الانجليز)...أي خانت مطالب ثورة 1919 بشكل بين من أجل الوصول للحكم، بعد أن قبلت أن تحكم تحت سلطة القصر والانجليز. وهكذا لم تجد أيا من هذه النقابات في الدستور ما تدافع به عن نفسها، أو يساعدها على تحقيق العدالة لأعضائها، بالضبط كما لم تجد الحركة الوطنية فيه ما يساعد على استقلال مصر. وظل التفاوت في توزيع الدخل المبالغ فيه والامتيازات غير العدالة التي سادت مصر في ذلك الوقت على ما هي عليه حتى قيام ثورة 1952، التي بررت قيامها بتواطؤ النظام الحاكم والقلة المنتفعة مع الاستعمار—وهي استحقاقات جوهرية فشل دستور 1923 في التعامل معها. بإختصار، إن قصة دستور 1923 هي في الحقيقة قصة التفاف على ثورة، وعليه فالإشادة به الآن تعكس توجهات كارثية، ولا يهم كثيرا إن نتج ذلك عن وعي أو غير وعي.
لا يوجد شك في أن دستور 1923 لعب دورا أساسيا في الالتفاف على أهداف ومبادئ ثورة 1919 (من مناهضة الاستعمار لنشر العدالة لحق الشعب في تقرير مصيره وطريقة حكم دولته)، أو على أقل تقدير أتى ليجسد هذا الإلتفاف. ولذلك بدأت أشكال سياسية تظهر خارج نطاق النظام السياسي الشرعي الذي أسسه هذا الدستور المعيب، مثلاً، على الرغم من جماعة الإخوان المسلمين تأسست في عام 1929 طبقا لهذا الدستور إلا أنها عملت منذ اللحظة الأولى خارج النظام السياسي الذي حدده ونمت على هذا الأساس "غير الشرعي" (لكننا نراها الآن تشيد به الآن وتسعى لتكراره في سياق مغاير)، بالضبط كما نمت الحركات الشيوعية خارجه، تلتهما المنظمات الفدائية التي لجأت للكفاح المسلح "غير الشرعي" (طبقا لدستور 1923) ضد قوات الاحتلال. وهكذا تعفن النظام السياسي مع الوقت، إلى أن اطاحت به ثورة 1952 التي كانت هي الأخرى إنقالبا عسكريا "غير شرعي" طبقا لنفس الدستور، لكن النظام سقط بسهولة ومعه دستوره كما تسقط أوراق الشجر في الخريف، ولم يجد أحد ليدافع عنه بعد أن احتفل الشعب بسقوطه وهلل لحل "غير شرعي."
في الحقيقة مثل دستور 1923 الاخراج النهائي لوأد ثورة 1919 بنفس القدر الذي يمثل الدستور الحالي محاولة لوأد ثورة يناير، وعليه كان من الضروري نظم الحديث عن دستور 1923 دون ذكر كلمة "ثورة" أو "خطف الثورة" على يد الإخوان/الوفد، تحت حكم العسكر/القصر المستبد، وتحكم الاستعمار الأمريكي/البريطاني في نظم الحدوتة على الرغم من الحضور القوي للأمريكان في كل الشؤون الداخلية (من اقرارهم بالتدخل لدعم "الديموقراطية"، لمقالبتهم الحركات السياسية، الخ...). وهكذا توافق الفرقاء على أننا نستحق نفس "عظمة" 1923، كما توافق أجدادهم على ذلك من قبل.
انعكاسات التصويرات السائدة عن دستور 1923 على الدستور الحالي
لذلك لا أستغرب خلو الحديث عن الدستور الجديد من أي ذكر لتجريم التطبيع، مثلا، أو تحديد سلطات مؤسسات الدولة بحيث يجبرها على عرض اتفاقيات مثل اتفاقية الكويز للاستفتاء الشعبي، أو الرجوع للشعب فيما يخص امتيازات البيزنيس، أو الرجوع له في حالة خرق موازنة الدولة لمعايير معينة من الانفاق الاجتماعي يحميها الدستور، وغيره مما شابه. بل تم نظم النقاش بالفعل بحيث أصبح الحديث عن مثل هذه الموضوعات يبدو خارج سياق الحديث عن الدستور. وعلينا أن نتوقع إذا سارت الأمور على ما هي عليه أن يعالج الدستور الجديد هذه الأمور كما عالجها دستور 1923 "السباق": تقوم سلطات الدولة الثلاث (ومن ورائهم السلطة "السيادية") بفعل ما تريد في أثناء فترة ولاياتها وعلى الشعب إذا تضرر عدم انتخابها بعد مرور خمسة سنوات من إقرارها وتطبيعها لما تريد من قرارت. ومن يرفض ذلك سيكون خارجاً على "الشرعية" و"الإرادة الشعبية" و"احترام قرار الاغلبية،" إلى آخر ذلك من الدفاعات التي يستدعونها في مثل هذه الأحوال.
وعلينا هنا أن نلاحظ أن أمور مثل مناهضة التطبيع، والجوار على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وغيره من الأمور التي تهتم الحركة الثورية بها تتعلق بالدستور بشكل مباشر. على سبيل المثال، تصون الحقوق الدستورية الشخصية حق السفر للسياحة في اسرائيل وعقد الصفقات التجارية معها، ولا يحق للقوانين التضييق على ممارسة هذا السلوك دون الرجوع لنصوص دستورية تتيح لها ذلك، وإلا قبلنا أن يكون من حق النظام الحاكم التضييق هلى الحقوق الدستورية كما يحلو له؛ وعلى نفس المنوال، لا يجوز إجبار الحكومة والبرلمان على عرض اتفاقية كالكويز على استفتاء شعبي دون نص دستوري يلزمها بذلك، وهكذا...
وعنى انطلاقهم جميعاً من رؤى تتجاهل هذه القضايا أن حبس الصراع حول الدستور داخل اطار قانوني رث يرفع النخبة فوقنا جميعا فيما يخص تحديد ماهية الدستور الذي نبتغيه، وهؤلاء هم أفضل من يختزلوا السياسة في الشكليات، ولنا في إجماعهم على عظمة دستور 1923 على الرغم من إلتفافه على أهداف ثورة 1919 آية على ذلك. لكن يبدو أن فساد ما يتم ترتيبه الآن يجهد هذا الإطار القانوني المهتريء، على بريق أساسه النخبوي، بحيث لم يعد قادراً على إخفاء تناقضات أساتذتنا الأفاضل فيما يخص الترتيبات القانونية الجارية، وذلك على الرغم من تجيش الإعلام في تطبيع بديهياته، إلا أنه فشل هو الآخر في إخفاء هذه التاقضات. لذلك وجب علينا الوقوف هنا أيضا عند بعض التفاصيل التي تكشف هذه التاقضات لأهميتها، وهذا ما سأفعله في المقالة القادمة، دون الانتقاص من ضرورة رفض الإطار الحالي لحكم عملية وضع الدستور من حيث المبدأ كما قدت له هنا، وإلا إنتهى بنا الأمر لوضع دستور "سباق" يقنن الاحتلال والصفقات السرية وأكل حقوق الغلابة كما فعل دستور أجدادنا.